سورة العلق - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العلق)


        


{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يعني الخط والكتابة، أي علم الإنسان الخط بالقلم.
وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وسمي قلما لأنه يقلم، أي يقطع، ومنه تقليم الظفر.
وقال بعض الشعراء المحدثين يصف القلم:
فكأنه والحبر يخضب رأسه *** شيخ لوصل خريدة يتصنع
لم لا ألاحظه بعين جلالة *** وبه إلى الله الصحائف ترفع
وعن عبد الله بن عمر قال: يا رسول الله، أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: «نعم فاكتب، فإن الله علم بالقلم».
وروى مجاهد عن أبي عمر قال: خلق الله عز وجل أربعة أشياء بيده، ثم قال لسائر الحيوان: كن فكان: القلم، والعرش، وجنة عدن، وآدم عليه السلام. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام، لأنه أول من كتب، قاله كعب الأحبار.
الثاني: أنه إدريس، وهو أول من كتب. قاله الضحاك.
الثالث: أنه أدخل كل من كتب بالقلم، لأنه ما علم إلا بتعليم الله سبحانه، وجمع بذلك نعمته عليه في خلقه، وبين نعمته عليه في تعليمه، استكمالا للنعمة عليه.
الثانية: صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي هريرة، قال: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه- فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي». وثبت عنه عليه السلام أنه قال: «أول ما خلق الله: القلم، فقال له اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فهو عنده في الذكر فوق عرشه».
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود: أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم يقول، يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول يا رب رزقه، ليقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ} [الانفطار: 10]». قال علماؤنا: فالاقلام في الأصل ثلاثة: القلم الأول: الذي خلقه الله بيده، وأمره أن يكتب. والقلم الثاني: أقلام الملائكة، جعلها الله بأيديهم يكتبون بها المقادير والكوائن والأعمال. والقلم الثالث: أقلام الناس، جعلها الله بأيديهم، يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها مأربهم.
وفي الكتابة فضائل جمة. والكتابة من جملة البيان، والبيان مما اختص به الآدمي.
الثالثة: قال علماؤنا: كانت العرب أقل الخلق معرفة بالكتاب، وأقل العرب معرفة به المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صرف عن علمه، ليكون ذلك أثبت لمعجزته، وأقوى في حجته، وقد مضى هذا مبينا في سورة العنكبوت.
وروى حماد بن سلمة عن الزبير بن عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله الفهري، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتابة». قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، لان في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجل، وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر. وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجل، فتحدث الفتنة والبلاء، فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفا ذريعة إلى الفتنة.
وهو كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال، ولا يرين الرجال». وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في الرجل، والرجل خلقت فيه الشهوة، وجعلت سكنا له، فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه. وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى. والكتابة عين من العيون، بها يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده.
وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به اللسان، فهو أبلغ من اللسان. فأحب رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة، تحصينا لهن، وطهارة لقلوبهن.


{عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)}
قيل: الْإِنْسانَ هنا آدم عليه السلام. علمه أسماء كل شي، حسب ما جاء به القرآن في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها}. فلم يبق شيء إلا وعلم سبحانه آدم اسمه بكل لغة، وذكره آدم للملائكة كما علمه. وبذلك ظهر فضله، وتبين قدره، وثبتت نبوته، وقامت حجة الله على الملائكة وحجته، وامتثلت الملائكة الامر لما رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الامر. ثم توارثت ذلك ذريته خلفا بعد سلف، وتناقلوه قوما عن قوم. وقد مضى هذا في سورة البقرة مستوفى والحمد لله.
وقيل: الْإِنْسانَ هنا الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دليله قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]. وعلى هذا فالمراد ب- عَلَّمَكَ المستقبل، فإن هذا من أوائل ما نزل.
وقيل: هو عام لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل: 78].


{كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7)}
قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى} إلى آخر السورة. قيل: إنه نزل في أبي جهل.
وقيل: نزلت السورة كلها في أبي جهل، نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة، فأمر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي في المسجد ويقرأ باسم الرب. وعلى هذا فليست السورة من أوائل ما نزل. ويجوز أن يكون خمس آيات من أولها أول ما نزلت، ثم نزلت البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضم ذلك إلى أول السورة، لان تأليف السور جرى بأمر من الله. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] آخر ما نزل، ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل. وكَلَّا بمعنى حقا، إذ ليس قبله شي. والإنسان هنا أبو جهل. والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان. أَنْ رَآهُ أي لان رأى نفسه استغنى، أي صار ذا مال وثروة.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه، قال: لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل فقال: يا محمد تزعم أنه من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة ذهبا، لعلنا نأخذ منها، فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: «يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاءوا فعلنا بهم ما أرادوه: فإن لم يسلموا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة». فعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن القوم لا يقبلون ذلك، فكف عنهم إبقاء عليهم.
وقيل: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى بالعشيرة والأنصار والأعوان. وحذف اللام من قوله أَنْ رَآهُ كما يقال: إنكم لتطغون إن رأيتم غناكم.
وقال الفراء: لم يقل رأى نفسه، كما قيل قتل نفسه، لان رأى من الافعال التي تريد اسما وخبرا، نحو الظن والحسبان، فلا يقتصر فيه على مفعول واحد. والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا. وقرأ مجاهد وحميد وقنبل عن ابن كثير {أن رآه استغنى} بقصر الهمزة. الباقون رَآهُ بمدها، وهو الاختيار.

1 | 2 | 3 | 4 | 5